فصل: الحالة الثالثة: ما كان عليه الأمر في زمن بني أيوب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثالث في مصطلح كتاب الديار المصرية فيما قبل الخلفاء الفاطميين وفيما بعدهم إلى زماننا:

وفيه أربع حالات:

.الحالة الأولى: ما كان عليه أمر نواب الخلفاء بهذه المملكة إلى ابتداء الدولة الطولونية:

ولم يكن لديوان الإنشاء بالديار المصرية في هذه المدة صرف عناية، تقاصراً عن التشبه بديوان الخلافة، إذ كانت الخلافة يومئذ في غاية العز ورفعة السلطان، ونيابة مصر بل سائر النيابات مضمحلة في جانبها، والولايات الصادرة عن النواب في نياباتهم متصاغرة بالنسبة إلى ما يصدر عن أبواب الخلافة من الولايات، فلذلك لم يقع مما كتب منها ما تتوفر الدواعي على نقله ولا تنصرف الهمم لتدوينه مع تطأول الأيام وتوالي الليالي.

.الحالة الثانية: ما كان عليه أمر الدولة الطولونية من حين قيام دولتهم إلى انقراض الدولة الأخشيدية:

وقد تقدم أن أحمد بن طولون أول من أخذ في ترتيب ديوان الإنشاء لما يحتاج إليه في المكاتبات والولايات، فاستكتب ابن عبد كان، فأقام منار ديوان الإنشاء ورفع مقداره؛ وكان يفتتح ما يكتبه عنه في الولايات بلفظ إن أولى كذا أو إن أحق كذا وما أشبه ذلك.
وهذه نسخة عهد كتب به ابن عبد كان عن أحمد بن طولون بقضاء برقة ترشد إلى ماعداها من ذلك وهي: إن أحق من آثر الحق وعمل به، وراقب الله من سر أمره وجهره، واحترس من الزيغ والزلل في قوله وفعله، وعمل لمعاده ورجعته، إلى دار فاقته وفقره ومسكنته من جعل بين المسلمين حاكماً، وفي أمورهم ناظراًفأراق الدماء وحقنها، وأحل الفروج وحرمها، وأعطى الحقوق وأخذها، ومن علم أن الله تبارك وتعالى سائله عن مثقال الذرة من عمله، وأنه إنما يتقلب في قبضته، أيام مدته، ثم يخرج من دنياه كخروجه من بطن أمه، إما سعيداً بعمله وإما شقياً بسعيه.
وإنا- لما وقفنا عليه من سديد مذهبك وقويم طريقتك، وجميل هديك وحسن سيرتك، ورجوناه فيك، وقررناه عندك: من سلوك الطريقة المثلى، واقتفاء آثار أئمة الهدى، والعمل بالحق لا بالهوى- رأينا تقليدك القضاة بين أهل ثغر برقة، وأمرناك بتقوى الله الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب، وبطاعته التي من آثرها سعد، ومن عمل بها حمد، ومن لومها نجا، ومن فارقها هوى- وأن تواصل الجلوس لمن بحضرتك من الخصوم: صابراً بنفسك على تنازعهم في الحقوق، وتدافعهم في الأمور، غير برم بالمراجعات، ولا ضجر بالمحاكمات: فإن من حأول إصابة فصل القضاء، وموافقة حقيقة الحكم بغير مادة من حلم، ولا معونة من صبرٍ، ولا سهمة من كظم، لم يكن خليقاًبالظفر بهما، ولا حقيقاً بالدرك لهما- وأن تقسم بين الخصمين إذا تقدما إليك، وجلسا بين يديك، في لحظك ولفظك، وتوفي كل واحد منها قسمة من إنصافك وعدلك، حتى ييأس القوي من ميلك، ويأمن الضعيف من حيفك: فإن في إقبالك بنظرك وإصغائك بسمعك إلى أحد الخصمين دون صاحبه ما أضل الآخر عن حجته، وأدخل الحيرة على فكره ورويته- وأن تحضر مجلس قضائك من يستظهر برأيه، ومن يرجع إلى دينٍ وحجاً وتقىً: فإن أصبت أيدك، وإن نسيت ذكرك- وأن تقتدي في كل ما تعمل فيه رويتك، وتمضي عليه حكمك وقضيتك، بكتاب الله الذي جعله صراطاً مستقيماً، ونوراً مستبيناً، فشرع فيه أحكامه، وبين حلاله وحرامه، وأوضح به مشكلات الأمور، فهو شفاء لما في الصدور. وما لم يكن في كتاب الله- عز وجل- نصه فإن فيما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم حكمه؛ وما لم يكن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتفيت فيه سبيل السلف الصالح من أئمة الهدى رضي الله عنهم الذين لم يألوا الناس اختباراً، ولا ادخروهم نصيحةً واجتهاداً، عالماً أنك أسعد بالعدل ممن تعدل عليه، وأحظى بإصابة الحق ممن تصيبه فيه: لما تتعجله من جميل أحدوثته وذكره، ويذخر لك من عظيم ثوابه وأجره، ويصرف عنك من حوب ما تتقلده ووزره- وأن يكون الذين تحكم بشهادتهم من أهل الثقة في أديانهم، والمعروفين بالأمانة في معاملاتهم، والموسومين بالصدق في مقالاتهم، والمشهورين بالتقدم في عدالاتهم: فإنك جاعلهم بين الله وبينك في كل كلام تصدره، وحكم تبرمه؛ وحقيق بأن لا ترضى لنفسك منهم إلا بما يرضى منك؛ وتعلم أن ذلك هو الصدق، وأنك قد أبليت عذرك في تخيرهم، فإنه يعلم أن ذلك هو الصدق من نيتك، والصحة من يقين، تحسن عليه معونتك، ويحضرك التوفيق في جميع أقضيتك- وأن يكون من تستعين به على المسالة عن أحوال هؤلاء الشهود ومذاهبهم، وما يعرفون به وينسبون إليه في رحالهم ومساكنهم، أهل الورع والأمانة، والصدق والصيانة- وأن تجدد المسألة عنهم في كل مرة، وتفحص عن خبرهم في كل قضية؛ ثم لا يمنعك وقوفك على سقوط عدالة من تقدمت بتعديله من استقبال الواجب في مثله، واستعمال الحق في أمره- وأن تشرف على أعوانك وأصحابك، ومن تجري أمورك على يديه من خلفائك وأسبابك، إشرافاً يمنعهم من الظلم للرعية، ويقبض أيديهم عن المآكل الردية، ويدعوهم إلى تقويم أودهم، وإصلاح فاسدهم، ويزيد في بصيرة ذوي الثقة والأمانة منهم؛ فمن وقفت منه على امتثال لمذهبك، وقبول لأدبك، واقتصار فيما يتقلده لك، أقررته وأحسنت مكافأته ومثوبته، ومن شممت منه حيفاً في حكمه، وتعدياً في سيرته، وبسطاً ليده إلى مالا يحب له، تقدمت في صرفه، وألزمته في ذلك ما يلزمه- وأن تختار لكتابتك من تعرف سداد مذاهبه، واستقلاله بما يتقلده، وإيثاره للتأكد من صحته، ومن تقدر عنده تقديماً في نصيحتك فيما يجري على يديه، وتوخياً لصدقك فيما يحضره وتغيب عن مشاهدته؛ فإنك تأمنه من أمر حكمك على مالا يؤتمن على مثله إلا الأمين، وتفوض إليه من حجج الخصوم المرفوعين إليك ما لا يفوض إلا لذي العفاف والدين- وأن تتفقد مع ذلك أمره، وتتصفح عمله، وتشرف على ما تحت يديه بما يؤديك إلى أحكامه وضبطه، ويؤمنك من وقوع خلل فيه- وأن تختار لحجابتك من لا يتجهم الخصوم، ولا يختص بعضها دون بعض بالوصول، وتوعز إليه في بسط الوجه؛ ولين الكنف، وحسن اللفظ، ورفع المؤونة، وكف الأذى.
فتقلد ما قلدناك من ذلك عاملاً بما يحق عليك لله عز وجل ذكره، ومستعيناً به في أمرك كله: فإنا قلدناك جسيماً، وحملناك عظيماً، وتبرأنا إليك من وزره وإصره، واعتمدنا عليك في توخي الحث وإصابته، وبسط العدل وإفاضته، واقبض لأرزاقك وأرزاق كتابك وأعوانك ومن يحجبك ولثمن قراطيسك وسائر مؤنك في كل شهر أربعين ديناراً، فقد كتبنا إلى عامل الخراج بإزاحة ذلك، أوقات استحقاقك إياه ووجوبه لك، وإلى عامل المدينة بالشد على يدك، والتقوية لأمرك، وضم العدة التي كانت تضم إلى القضاة من الأولياء إليك، وهما فاعلان ذلك إن شاء الله تعالى.

.الحالة الثالثة: ما كان عليه الأمر في زمن بني أيوب:

وكانوا يسمون ما يكتب عن ملوكهم من الولايات لأرباب السيوف والأقلام تقاليد وتواقيع ومراسيم وربما عبروا عن بعضها بالمناشير وهي في الافتتاحات على أربع مراتب:
المرتبة الأولى: أن تفتتح الولاية بخطبة مبتدأة بالحمد لله تعالى ثم يؤتى بالبعدية...:
ويذكر ما سنح من حال الولاية والمولى، ويوصى المولى بما يليق بولايته؛ ثم يقال: وسبيل كل واقفٍ من النواب العمل به أو نحو ذلك، وهي على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: أرباب السيوف من هذه المرتبة:
وهذه نسخة توقيع بولاية ناحية وإقطاع بلادها لمتوليها، وهي: الحمد لله على عوائده الجميلة وعواطفه، وفوائده الجزيلة وعوارفه، ناصب الحق وناصره، وقاصم البطل وقاصره، ومنير الدين ومديله، ومبير الكفر ومذيله، وشاد أزر أوليائه وساد ثغرهم، وناصر معزهم ومعز نصرهم، الذي أضفى علينا مدارع نعمه، وأصفى لدينا مشارع كرمه، وأعلق أيدينا من العدل بأوكد الأسباب والأمراس، وصرف بنا صرف العسف وكف بكفايتنا كف البؤس عن الرعية والباس، وجلب إلى استجلاب الشكر من الناس همتنا، وطوى على حب البر وإبرار المحب طويتنا، وحسم بما أولاناه من أيدٍ مادة كل يدٍ تمتد إلى محظور، ويسرنا ببساط العدل المطوي لما طوى بعدلنا بساط الظلم المنشور، وأبى لنا أن نكفر نعمةً أو نهبها لكافر، أو ندع شكر منةٍ أو نودعها عند غير شاكر.
ولما كان الأمير فلان ممن سبقت لجده ولأبيه- تعاهد الله بالعهاد مثواهما، وخص بثرار الرحمة ثراهما- الحرم الأكيدة، والخدم الطريفة والتليدة، ولم يزالا مجتهدين في تعمير هذا البيت وتشييد أسه، ملازمي الإدآب في إنمائه وتشديد غرسه، مفضيين بالموالاة إلى مواليه، مفصحين بالمعاداة لمعاديه، رأينا- لازال الإقبال لآرائنا مقابلاً ومرافقاً، والسعد مساعداً والتوفيق موافقاً- أن نلحقه بدرجة أوليه، ونورده من كرمنا مورد جده وأبيه، ونثني إليه عنان عنايتنا، ونرعاه بعين رعايتنا، ونلحفه جناح لطفنا، ونبوئه مقعد شرف تحت ظلنا، ونحرس حده من الفلول، وجده من الخمول، وعوده من الخور، وورده من الكدر، وأن نقرره على ما بوأنا فيه والده من الهبات والإنعام، والإفضال والإحسان، وجميع ما دخل تحت اسمه من المعاقل والبلدان، وسيوضح ذلك بقلم الديوان.
فليقابل هذا الإنعام من الشكر بمثله، ويواز هذا الإفضال من حسن القبول بعدله، وليرتبط نعم الله عنده بالشكر الوافي الوافر، فالسعيد من اطرح خلة الشاكي وادرع حلة الشاكر؛ وليدمن التحدث بها، فالتحدث بالنعم من الشكر، ويستجذب موادها بإيضاح سبل البر، ويجعل التقوى شعاره ودثاره، ويخلص الطاعة لله إيراده وإصداره؛ وليكن العدل ربيئته ورائده، والأمر بالمعروف دليله وقائده، وليقم فيما نيط به حق القيام، ويشمر في حفظ ما استرعيناه عن ساق الاهتمام، ويعلم أن منزلته عندنا أسنى المنازل وأعلاها، ومرتبته لدينا أبهج المراتب وأبهاها، ومحله عندنا السامي الذي لا يضاهيه سامي؛ فسبيله علم ذلك وتحقيقه، وتيقنه وتصديقه، وسبيل كل واقف على هذا المثال، أن يقابله بالامتثال، من سائر العمال، وأرباب الولايات والأعمال. والاعتماد على العلامة الشريفة في أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني أرباب الوظائف الدينية.
وهذه نسخة توقيع بتدريس مدرسةٍ والنظر عليها، والتحدث على أوقافها وسائر تعلقاتها، وهي:
الحمد لله الظاهر إحسانه، الباهر برهانه، القاهر سلطانه، المتظاهر امتنانه، نحمده على إنعامه حمداً يدوم به من حلب غزارته وحلي نضارته ازدياده وازديانه، ونسأله أن يصلي على سيدنا محمد نبيه الشارع الشارح بيانه، وعلى آله وصحبه الذين هم أعضاء شرعه وأركانه.
أما بعد، فإنا لما نراه من تشييد بيوت ذوي البيوتات، وإمضاء حكم المروءة في أهل المروءات، وإرعاء موات ذوي الحقوق الحقيقية وإحياء الموات، وموالاة النعم الشامل عمومها لأولي الخصوص والخلوص في الموالات، مانزال نلحق درجات الأخلاف منهم في الاختصاص بالاستخلاص بالأسلاف، فنوردهم من مشارع دولتنا ومشارب نعمتنا في الاصطفاء والاصطناع أعذب النطاف، ونجيبهم من مغارس الرجاء، ومجاري النماء في الإدناء والاجتباء، ثمرات النعم الدانية القطاف، ونفيض عليهم من مدارع البهجة والبهاء، وحلل الثناء والسناء في الإكرام، بالاحترام، مايضفو على الأعطاف.
ولما كان الشيخ فلان متوحداً بالنسب الأثير الأثيل، والحسب الجلي الجليل، والمحتد الأكيد الأصيل، والفضل الموروث والمكتسب، والزكاء في المنتمى والمنتسب، والذكاء الذي أنارت في أفق التوفيق ذكاؤه، والولاء الذي بان في شرعة الإخلاص صفاؤه، والدين الذي علا سنا سنته، في منار التحميد، والخلوص الذي حلا جنى جنته، في مذاق التوحيد، والرياسة التي تضوع ريا رياضها المونقة، والسماحة التي تنوح حيا حياضها المغدقة، والأمانة التي نهضت بها فضائله، والموالاة التي نجحت بها عندنا وسائله- رأينا إجراءه على عادة والده في تولي المدرسة المعمورة التي أنشأها جده للشافعية بحلب، وأوقافها، وأسبابها، وتدريسها، وإعادتها، واستنابة من يراه ويختاره في ذلك كله، والنظر في جميع ما يتعلق بها كثرة وقلة، وترتيب الفقهاء فيها، وتقرير مشاهراتهم على ما يراه من تفضيل وتقديم، وتفصيل وتقسيم، وتخصيصٍ وتعميم، ونقصٍ وتكميل وتتميم، وحفظ الوقوف بالاحتياط في مصارفها، والعمل فيها، بشروط محبسيها، وإطلاقها بقيود واقفيها، بالابتداء بالعمارات، التي تؤذن بتوفي الارتفاعات، وتكثير المغلات، وتنمية الثمرات، مستشعراً تقوى الله التي هي حلية الأعمال الصالحات، والعصمة الباقية والجنة الواقية عند النائبات. وفوضنا ذلك إلى أمانته، وبعده إلى من يقوم مقامه من إخوته، تشييداً لبيتهم الكريم، وتجديداً لمجدهم القديم، ورفعاً لمكانتهم المكينة، وحفظاً لمرتبتهم المصونة، وأمرنا بإعفاء جميع أوقاف المدرسة وسائر أوقافهم، وأملاكه وأملاك إخوته وحمايتهم من جميع المظالم والمطالب، والنوائب والشوائب، والعوارض والعراض واللوازم والكلف، والمؤن والسخر، والتبن والحطب، والأطباق والأنزال، وسائر التوزيعات والتقسيطات والأنفال، وإعفاء فلاحيها ومزارعيها من جميع ذلك، وإطلاق كل ما يصل من مغلات الأوقاف والأملاك المذكورة إلى مدينة حلب من جميع المؤن على الإطلاق، وكذلك جميع ما لهم من البضاعات والبياعات والتجارات معفاة ومطلقة لا اعتراض عليها لأحد، ولا تمد إلى شيء منها يد ذي يد، وليتول ذلك على عادته المشكورة، وأمانته المشهورة بنظر كاف شاف، وكرم وافر واف، وورع من الشوائب صاف، وعزوف عن الدنيا بالدينيات متجاف، وسداد لركن المصالح شائد، وتذكر لترقي مواد المناجح رائد، ورأي في ذمة الصواب راجح، وسعي برتبة الرشاد ناجح، وهمة عالية في نشر العلم بالمدرسة وإعلاء مناره، وإلزام الفقهاء والطلبة بتدريسه وإعادته وحفظه وتكراره، ومروءة تامة في الاشتمال فعلى إخوته ومخلفي أبيه بما يصل به الرحم، ويظهر به الكرم، ويحيي من مفاخر آبائه الرمم، ويقوي لهم من معاقد مكارمه العصم. وسبيل الولاة والنواب وكل واقف على هذا المثال إمضاء ذلك كله على سبيل الاستمرار، وتصرم الأعمار، وتصرف الأعصار، وتقلب الأحوال والأدوار، وحفظه فيهم وفي أعقابهم على العصور والأحقاب، ووصل أسبابه عند انقطاع الأسباب، من فسخ ينقض مبرم معاقده، أو نسخ يقوض محكم مقاعده، أو تبديل يكدر صافي موارده ومشارعه، أو تحويل يقلص ضافي ملابسه ومدارعه، وليبذل لهم المساعده في كل ما يعود له ولجماعته بصلاح الحال، وفراغ البال ونجاح الآمال، وإقامة الجاه في جميع الأحوال. والعمل بالأمر العالي وبمقتضاه والاعتماد على التوقيع الأشرف به إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث: أرباب الوظائف الديوانية:
وهذه نسخة توقيع بوزارة من إنشاء بعض بني الأثير، وهي: الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده، وأغنانا بمزيد عطائه عن ازدياده، وجعلنا ممن استخلفه في الأرض فشكر عواقب إصداره ومباديء إيراده.
نحمده- ولسان أنعمه أفصح مقالاً وأفسح مجالاً، وإذا اختلفت خواطر الحامدين روية كاثرها ارتجالاً- ونسأله أن يوفقنا لتلقي أوامره ونواهيه بالاتباع، وأن يصغي بقلوبنا إلى إجابة داعي العدل الذي هو خير داع، وينقذنا من تبعات مااسترعناه يوم يسأل عن رعيته كل راع.
أما بعد، فإن الله قرن استخارته برشده، وجعلها نوراً يهتدى به في سلوك جدده، ويستمد من يمن صوابه ما يغني عن الرأي ومدده، ومن شأننا أن نتأدب بآداب الله في جليل الأمر ودقيقه، وإذا دل التوفيق امرءاً على عمله دل عملنا على توفيقه، فمن عنوان ذلك أنا اصطفينا لوزارتنا من تحمدنا الأيام من أجله، وتحسدنا الملوك على مثله، ويعلم من أتى في عصره أنه فات السابقين من قبله، وهو الزير الأجل السيد الصدر الكبير، جلال الدين، شرف الإسلام، مجتبي الإمام فخر الأنام، وليست هذه النعوت مما تزيد مكانه عرفاً، ولا تستوفي من أوصافه وصفاً، وإن عدها قوم جل ما يدخرونه من الأحساب، ومعظم ما يخلفونه من التراث للأعقاب، ولا يفخر بذلك إلا من أعدم من ثروة شرفه، ورضى من الجوهر بصدفة؛ وأنت فغير فاخر به ولا بما ورثته من مجد أبيك الذي أضحت الأيام به شهوداً، والجدود له جدوداً، وغدا وكأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن الصباح عموداً، وقد علمت أنه كان إليه نسب المكارم وسيمها، وكان ما بلغه من دنياه على عظمها، لكنك خلفت لنفسك مجداً منك ميلاده، وعنك إيجاده، وإذا اقترن سعي الفتى بسعي أبيه فذلك هو الحسب الذي تقابل شرفاه، وتلاقى طرفاه، وغض الزمان عنه طرفه كما فتح بمدحه فاه؛ وإذا استطرفت سادة قوم بنيت بالسؤدد الطريف التليد، ولقد صدق الله لهجة المثني عليك إذ يقول: إنك الرجل الذي تضرب به الأمثال، والمهذب الذي لا يقال معه: أي الرجال؛ وإذا وازرت مملكة فقد حظيت منك بشد أزرها، وسد ثغرها، وأصبحت وأنت صدر لقلبها وقلب لصدرها؛ فهي مزدانة منك بالفضل المبين، معانة بالقوي الأمين، فلا تبيت إلا مستخدماً ضميرك في ولائها، ولا تغدو إلا مستجدياً كفايتك في تمهيدها وإعلائها.
ومن صفاتك أنك الواحد في عدم النظير، والمعدود بألف في صواب التدبير، والمؤازر عند ذكر الخير على الإعانة وعند نسيانه على التذكير؛ ولم ترق إلى هذه الدرجة حتى نكحت عقبات المعالي فقضيت أجلها، وآنست من طور السعادة ناراً فهديت لها؛ ولم تبلغ من العمر أشده، ولا نزع عنك الشباب برده؛ بل أنت في ريعان عمرك المتجمل بريعان سؤدده، المتقمص من سيما الخلال ما أبرز وقار المشيب في أسوده، وهذا المنصب الذي أهلت له، وإن كان ثاني الملك محلا، وتلوه عقداً وحلاً، فقد علا بك قدره، وتأبل بك أمره، وأصبح شخصك في أرجائه منار، ورأيك وفضلك من حوله سور وسوار، وله من قلمك خطيب يجادل عن أحساب الدولة فينفخها فخراً، وسيف يجالد عن حوزتها فيمنحها نصراً، ولقد كان من قبلك وقبل أبيك مكرهاً على إجابة خاطبه، والنزول إليه عن مراتبه، فلما جئتماه استقر في مكانه، ورضي بعلو شأنكما لعلو شانه؛ وقد علم الآن بأنك نزلته نزول الليث في أجمه، واستقللت به استقلال الرمح باحدمه، ومازالت المعالي تسفر بينك وبينه وأنت مشتغل بالسعير للسيادة وآدابها، عن السعي للسيادة وطلابها، فخذ ما وصلت إليه باستحقاق فضلك ومناقبه، لا باتفاق طالعك وكواكبه.
واعلم أن هذه النعمة وإن جاءتك في حفلها، وأناخت بك بصاحبها وأهلها؛ فلا يؤنسها بك إلا الشكر الذي يجعل دارها لك داراً، وودها مستملكاً لك لا معاراً، وقد قيل: إن الشكر والنعمة توءمان، وإنه لا يتم إلا باجتماع سر القلب وحديث اللسان؛ فاجعله معروفها الذي تمسكها بإحسانه، وتقيدها بأشطانه.
وقد أفردنا لك من بيت المال ما تستعين به على فرائض خدمك ونوافله، وترد فضله على ابتناء مجدك وفضائله، وذلك شيء عائد على الدولة طيب سمعته؛ فلها محمود ذكره ومنك موارد شرعته، وإذا حمدت مناهل الغدر كان الفضل للسحاب الذي أغدرها. والمفرد باسمك من بيت المال كذا وكذا.
وكل ما تضمنه تقليد غيرك من الوصايا التي قرعت له عصاها، ونبذت له حصاها، فأنت مستغن عن استماعها، مكتف باطلاع فكرك عن اطلاعها؛ غير أنا نسألك كما سأل رسول الله معاذاً، ونسأل الله أن يجعل لك من أمرك يسراً ومن عزمك نفاذاً، وقد أجابنا لسان حالك بأنك تأخذ بتقوى الله التي ضمن لها العاقبة، وجعل شيعتها الغالبة، وأنك تجعلها بينك وبينه سبباً ممدوداً، وبينك وبين الناس خلقاً معهوداً، حتى تصبح وقد أمنت من دهرك عثاراً، ومن أبنائه أسماعاً وأبصاراً- ومن شرائطها أن يكون الرجل المسلم الذي سلم الناس من يده ولسانه، وفي هذين كفاية عن غيرهما من الشيم، التي تحفظ بها سياسات الأمم: فإن العدل هو الميزان الذي جعله الله ثاني الكتاب، والإحسان الذي هو الطينة التي شاركتها القلوب في جبلتها مشاركة الأحباب.
وأما ماسوى ذلك من سياسة الملك في تقرير أصوله، وتدبير محصوله: كالبلاد واستعمارها، والأموال واستثمارها، وولاة الأعمال واختبارها، وتجنيد الجنود واختيارها، فكل ذلك لا يصدر تدبيره إلا عن نظرك، ولا يمشي فيه إلا على أثرك؛ وأنت فيه الفقيه ابن الفقيه الذي سرى إليك علمه نفساً ودرساً، وثمرةً وغرساً؛ فهذا كتاب عندها إليك: فخذه بقوة الأمانة التي أبت السموات والأرض حملها، وما أطاقت ثقلها، والله يسلك بك سدداً، ويتحرى بك رشداً، ويلزمك التوفيق قلباً ولساناً ويداً، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة توقيع بإعادة النظر بثغر الإسكندرية لابن بصاصة في شهور سنة ثمان وسبعين وستمائة، وهي: الحمد لله الذي أضحك الثغور بعد عبوسها، ورد لها جمالها وأنار أفقها بطلوع شموسها، وأحيا معالم الخير فيها وقد كادت أن تشرف على دروسها، وأقام لمصالح الأمة من يشرق وجه الحق ببياض آرائه، وتلتذ الاسماع بتلاوة أوصافه الجميلة وأنبائه، حمد من أسبغت عليه النعماء، وتهادت إليه الآلاء، وخطبته لنفسها العلياء.
وبعد، فأحق من أماس في أندية الرياسة عطفاً، واستجلى وجوه السعادة من حجب عزها فأبدت له جمالأولطفاً. واصطفته الدولة القاهرة لمهماتها لما رأته خير كافل، وتنقل في مراتبها السنية تنقل النيرات في المنازل.
ولما كان المجلس السامي، القاضي، الأجل، الصدر، الكبير، الرئيس، الأوحد، الكامل، المجتبى، المرتضى، الفاضل، الرشيد، جما الدين، فخر الأنام، شرف الأكابر، جمال الصدور، قدوة الأمناء، ذخر الدولة، رضي الملوك والسلاطين، الحسين ابن القاضي زكي الدين أبي القاسم- أدام الله رفعته- ممن أشارت إليه المناقب الجليلة، وصارت له إلى كل سؤل نعم الوسيلة- رسم بالأمر العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، العادلي، البدري- ضاعف الله علاء هو نفاذه- أن يفوض إليه نظر الإسكندرية المحروس ونظر متاجره، ونظر زكواته ونظر صادره، ونظر فوة والمزاحمتين، فيقدم خيرة الله تعالى ويباشر هذا المنصب المبارك، بعزماته الماضية، وهممه العالية، برأي لا يساهم فيه ولا يشارك، ليصبح هذا الثغر بمباشرته باسماًحالياً، وتعود بهجته له بجميل نظره ثانياً، وينتصب لتدبير أحواله على عادته، ويقرر قواعده بعالي همته، ويجتهد في تحصيل أمواله وتحصين ذخائره، واستخراج زكاته وتنمية متاجره، ومعاملة التجار الواردين إليه بالعدل، الذي كانوا ألفوه منه، والرفق الذي نقلوا أخباره السارة عته؛ فإنهم هدايا البحور، ودوالبة الثغور، ومن ألسنتهم يطلع على ما تجنه الصدور، وإذا بذر لهم حب الإحسان نشروا له أجنحة مراكبهم وحاموا عليه كالطيور، وليعتمد معهم ما تضمنته المراسيم الكريمة المستقرة الحكم إلى آخر وقت، ولايسلك بهم حالة توجب لهم القلق والتظلم والمقت، وليواصل بالحمول إلى بيت المال المعمور، وليملأ الخزائن السلطانية من مستعملات الثغر وأمتعته وأصنافه بكل مايستغنى به عن الواصل في البرور والبحور، وليصرف همته العالية إلى تدبير أحوال المتاجر بهذا الثغر بحيث ترتفع رؤوس أموالها وتنمي، وتجود سحائب فوائدها وتهمي، وليراع أحوال المستخدمين في مباشراتهم، ويكشف عن باطن سيرهم في جهاتهم، ليتحققوا أنه مهيمن عليهم، وناظر بعين الرأفة إليهم، فتنكف يد الخائن منهم عن الخيانة، وتتحلى أنامل الأمين بمحاسن الصيانة؛ وليتفق فيما يأتيه ويذره، ويقدمه من المهمات ويؤخره، مع المجلس السامي، الأمير، الأجل، الكبير، المجاهد، المقدم، الأوحد، النصير شمس الدين، متولي الثغر المحروس- أدام الله نعمته- فإنه نعم المعين على تدبير المهمات، ونعمت الشمس المشرقة في ظلم المشكلات. وليطالع بالمتجددات في الثغر المحروس، ليرد الجواب عليه عنها بما يشرح الصدور ويطيب النفوس، وليتنأول من الجامكية والجراية عن ذلك في غرة كل شهر من استقبال مباشرته ما يشهد يه الديوان المعمور لمن تقدمه من النظار بهذه الجهات، وهي نظر الثغر وما أضيف إليه على ما شرح أعلاه.
المرتبة الثانية: أن تفتتح الولاية بلفظ أما بعد حمد الله أو أما بعد...:
فإن كذا ويؤتى بما يناسب من ذكر الولاية والمولى، ثم يذكر ما سنح من الوصايا ثم يقال وسبيل كل واقف عليه فمن المكتتب لأرباب السيوف من هذه المرتبة ما كان يكتب لبعض الولاة.
وهذه نسخة بولاية الشرقية، وهي: أما بعد، فإنا لما منحنا إياه من معجزات النصر المستنطق الألسنة بالتسبيح، وآتاناه من نظر حمى ناضر عيش الأمة من التصويح، وألبسناه من ثياب العظمة المخصوصة بأحسن التوشيع والتوشيح، ووفقنا له من اصطفاء من نقبل عليه بوجه التأهيل للمهمات والترشيح، وقواد من عزائمنا التي ترج بها أرض الكفر وتدوخ، ووسعه لنا من الفتوح التي أنباؤها خير ما تصدر به السير وتؤرخ- لانزال نبالغ فيما صان الحوزة وحاطها، ومد رواق الأمنة ومهد بساطها، وقرب نوازح المصالح وجمع أشتاتها، وأوجب انصرام حبال اختلال الأمور واقتضى انبتاتها.
ولما كانت الأعمال الشرقية جديرة بمتابعة الاعتناء وموالاته، وإعراق كرم التعهد فيما يحفظ نظامها بمغالاته، وأحقها بأن تصرف إلى صونها وجوه الهمم الطوامح، ويوقف عليها حسن الاحتفال الجامع دواعي تذليل الجامح، إذ كانت أجدر الأعمال بكلاءة الفروع من أوضاعها والأصول، والباب الذي لا يجب أن يدخله إلا من أذن له في القدوم إليها والوصول، ويتعين التحرز على الطرقات التي منها إليها الإفضاء، ويوكل بما دونها من المياه عيون حفظة لا يلزمها النوم والإغضاء، - وكنت أيها الأمير أشد الأمراء بأساً، وأوفاهم لحسن الذكر الجميل لباساً، وأكثرهم لمهج الأعداء اختلاساً، وأجمعهم للمحاسن المختلفة ضروباًوأجناساً، وقد تناصرت على قصودك الحسنة واضحات الدلائل، وتحلت أجياد خلالك من جواهر المفاخر بقلائد غير قلائل، واستطار لك أجمل سمعه، وفطمت سيوفك أبناء الكفر عن ارتضاعها من الملة الإسلامية ثدي طمعه، ولا استبهمت طرق السياسة إلا هديت إلى مجاهلها، ولاحلأ التقصير سواك عن شرائع النعم إلا غدوت بكفايتك وارد مناهلها، وكم شهدت مقام جلاد، وموقف جهاد، فمزقت ثوب مارققه نسجاً، وأدلت في ليل قسطه عوادي صوارمك شرجاً، وقمت فيما وكل إليك من أمور الفاقوسية وقلعتي صدر وأيلة حرسهما الله تعالى قياماً أحظاك بالثناء والصواب، واستنبت في كل منها من أجرى أمورها على الصواب- خرج أمر الملك الناصر بكتب هذا السجل بتقليدك ولاية الأعمال الشرقية المقدم ذكرها؛ فاعتمد مباشرتها عاملاً بتقوى الله التي مغنمها خير مااقتاده مستشعروها لأنفسهم واستقاوه. قال الله تعالى: {وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه}، وأبسط العدل على أهل هذه الولاية، واخصص أهل السلامة بما يسبل عليهم ستر الحياطة والحماية، وتطلب المفسدين أتم تطلب، واحظر عليهم التنقل، في هذه البلاد والتقلب؛ ومن ظفرت به منهم فقابله بما يوجبه حكم جريرته، ويقتضيه موقع جريمته، ويجعله مزدجراً لسالكي طريقته، وشد من المستخلف على الحكم العزيز شداً ينصر جانب الشرع ويعزه، ويكر به على الباطل ترويع الحق وأزه، وأعن المستخدمين في المال على استفائه من وجوهه عند وجوبه، وبلغ كلاً منهم من الإعانة على تحصيله أقصى مطلوبه، وقوا أيديهم في تخضير البلاد وتعميرها؛ وأبعث المزارعين على مباشرة أحوال الزراعة وتقرير أمورها، وفيما يسترعونه من مصالح الأعمال، ويعود عليهم في موجبات الرجاء بمناحج الآمال، وراع أمر السبل والطرقات، واجعل احتراسك عليها الآن موفياً على المتقدم من سالف الأوقات، ولاتن في إنفاذ المتخبرين إلى بلاد العدو، وتحديهم في الرواح والغدو، بما يمنعهم من الهدو، وكشف أخبارهم، وتتبع آثارهم، وتسيير الجواسيس إلى ديارهم، حتى لاتخفى عنك من شؤونهم خافية، ولايجدوا سبيل غرة يهتبلونها- والعياذ بالله- بالجملة الكافية، وطالع بما يتجدد لك وما يرد من الأنباء عليك، وغير ذلك مما يحتاج إلى علمه من جهتك، وماتجري عليه أحكام خدمتك؛ فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية الغربية من هذه المرتبة، وهي: أما بعد، فإنا- لما آتانا الله من سعادة لطرق الإرادات فيها تعبيد، وأسبغه بنا من نعم لا يعدها التحديد، ولا يحدها التعديد، وأنهجنا به من اكتناف المطالب بنجاح لا يعقبه تعسير ولا يعسره تعقيد، وأمضاه عن عزائمنا التي ما فتكت قط بالأعداء فقيد منهم فقيد، ولقاه الأمنة بنظرنا من نضرة عيشٍ جانب الجفاف دوحة المخضل، وأهداه بتبصرنا من أنوار الهدى المتقدمة كل ذي جهل ظل ممن ضل- لانزال نستوضح أمور أمراء دولتنا متصفحين، ونبلو أخبار المؤهلين منهم لسياسة الرعية المرشحين، ونكشف شؤونهم غير متجورين ولا متسمحين، ونظهر في أحوالهم آثار الإيثار لرفع درجاتهم، وأمارات الرفع منهم مقابلة على حياطة الأموال من نكون عليه وصون منجاتهم ونبوثهم مبوأ صدق من تصديق آمالهم وتحقيقها، ونزف إليهم عقائل المنح المانع شكرهم من تسيب سيبها وتطرق تطليقها، ونحمل لكل منهم مايؤمله من اجتهاده ويؤثره، عملاً بآداب الله سبحانه في إجزال حظوظ المحسنين من إحسان المجازاة، وإيلائهم المزيد الحاكم بنقص اعتدادهم عن الموازنة له والموازاة،، كما قال سبحانه، وقوله هدى ونور وشفاء لما في الصدور: {ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور}
ولما كان الأمير والنعوت والدعاء من أنجحهم فالاً، وأرجحهم مقالاً، وأصلحهم أعمالاً، وأوضحهم كمالاً؛ ومازالت أغصان نهاه متتابعةً في بسوقها، وضرائبه نافقةً أعلاق المحامد بسوقها، وعزائمه في إذلال الفرق المبالغة في فسوقها، مشمرة عن سوقها، وما برح في شوط الفخر راكضاً، ولعقود مكروه الأمور التي تزيغ الأمانة رافضاً، وبأعباء القيام بفرائض الآلاء ناهضاً، وما انفكت مناقبه تعيي بيان الواصف وبنان العاد، ومساعيه مدركة وهي وادعة ما يعجز عن أقله جد الجاد، ورأيه يرتق كل متفتق ومنبثق من الأمور المهمة بسداد الراتق الساد، وجميل ذكره يفوح بما يفوق المسك فيثوب إليه من الثواب بالنائي الناد؛ ومافتيء دأب شيمته الإعراض، عن الموبق من الأعراض، واختيار الرفق، والإغراق فيما يديمه إلى سفك أعناق أسرى المسلمين من سرى العتق- خرج أمر الملك الناصر بكتب هذا السجل له بتقليد ولاية الأعمال الغريبة.
فليتقلد ماقلده معتمداً على تقوى الله التي صرف عن معتمدها شرب التكدير، ومنحه من المكارم عنده ما يوفي على التقدير، وليجر على عادته في بسط ظل المعدلة ومد رواقها، وصون مساحي الرعايا عن إملاقها منها وإخفاقها، والمساواة بها بين الأقوى والأضعف، والأدنى والأشرف، والبادي والحضار، والمناوئين والأنصار، والخاص والعام، والأجنبي ورب الحرمة والذمام: لينام المستورون على مهاد الأمن، ويسلم جانب سلامة أموالهم وأرواحهم من الوهن، وليعامل المستخلف على الحكم العزيز بما يستوجبه مثله من نصرة الأحكام، ووكل إليه أمر الأمراء لمن آثرها والإحكام، والإكرام الشامل لقدره، والاهتمام الشارح لصدره، وليتوخ المستخدمين في الأموال بما يكون لعللهم مريحاً، ليصل إليهم ما يرمونه نجيحاً، ويلزم من جرت عادته بلزوم الحدود واجتناب تعديها، والتوفر على حفظ مسالكها والمترددين فيها، وليطالع بما يتجدد قبله من الأحوال الطارية، وما لم تزل الرسوم بإنهاء مثلها جارية، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة: أن تفتتح الولاية بلفظ رسم...:
ثم يذكر أمر الولاية والمولى ويوضح، ثم يقال وسبيل كل وقف عليه فمن المكتتب لأرباب السيوف من هذه المرتبة نسخة مرسوم بشد ناحيةٍ، وهي: رسم- أعلى الله المراسيم وأدام نفاذها- بالإنعام على الأمير فلان بما يفيض عليه ملابس الاصطفاء ويضيفها، ويسمي لقدمه في الثبات مدارج الارتقاء ويسنيها، ويعرب عن اختصاصه بالمنزلة التي يفضل بها على مباريه، واستخلاصه للمرتبة التي يفوت بها شأو مجاريه، ويؤهله لثغر حارم المحروس وشدة توليه أموره بكفايته ونهضته وحزامته وجده، وقد أمرنا بتسليم قلعة حارمٍ وأعمالها، وسائر ما يختص بها ويضاف إليها من ضياعها ومواضعها إليه، والتعويل في ولايتها وتعميرها وتثميرها عليه، بموجب ما يفصل من الديوان على ما كان جارياً في الإقطاع المحروس للحال، وسبيل أهل الديوان- أيدهم الله- العمل بالأمر العالي وبمقتضاه، والاعتماد على التوقيع الأشرف به، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة مرسوم بشد وقف، وهي: رسم- أعلى الله المراسيم وأدام نفاذها- بالتعويل على الأمير فلان في تولية الوقوف بالجامع المعمور بحلب المحروسة، والبيمارستان، والمساجد، والمشاهد بالأماكن والمواضع، وظاهرها وباطنها وأعمالها، وتفويضها إليه، والاعتماد في جميعها عليه، سكوناً إلى نهضته وكفايته، ووثوقاً بخبرته ومعرفته وعلماً بنزاهته، وسداده وأمانته، وذلك لاستقبال سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
فليتول ذلك بكفاية كافية، ونهضةٍ وافية، وهمة لأدواء الأحوال شافية، ونظر تام، لشمل المصالح ضام، وتدبيرٍ جميل في كل خاص من أسباب عمله وعامٍ، وتقوى لله عز وجل تقوى بها يده، ويضح بالاستقامة على سننها جدده، ناظراً في الوقوف ومصارفها، وتتبع شروط واقفها، بكل ما يعود بتعمير أعمالها، وتثمير أموالها، وتدبير أحوالها، مطالباً بحساب من تقدمه وتحقيق مبالغه تكميلاً وإضافة، واحتساباً وسيافة، وليطلب شواهده، وليبن على الصحة قواعده وليلتمس ما يصح من بواقيه من جهاتها، وليكشف بما يوضحه من سبل الأمانة وجوه شبهاتها، وقد أذن له في استخدام من يراه من النواب والمتصرفين والمشارفين، والوكلاء والمستخدمين، على ما جرت به العادة، من غير زيادة. وسبيل النواب- أيدهم الله- العمل بالأمر العالي وبمقتضاه، والاعتماد على العلامة الشريفة، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الرابعة: أن يفتتح بلفظ إن أحق...:
أو إن أولى أو من كانت صفته كذا وما أشبه ذلك فمن ذلك نسخة منشور بنقابة الأشراف، وهي: من كانت أوصافه شائعة بين الأنام، وصنوف فضائله منشورةً لدى الخاص والعام، مع شرف نسبٍ شامخ الأعلام، وتقى فخر به على الأنام، وعلم يجلى به صدأ الأفهام، وعفةٍ مرائرها محكمة الإبرام- كان جديراً بإفاضة سجال النعم عليه، وقميناً بإرسال سيل المواهب إليه.
ولما كان الشيخ فلان متصفاً بهذه الصفات الجميلة، ومتخصصاً بمزاياها الجليلة، وضارباً فيها بالسهم المعلى، ونازلاً منها في الشرف الأعلى، ومتقمصاً ثوب الإخلاص والصفاء، ومتشحاً بوشاح العفة والولاء- اختصصناه بزيادة التقديم والاجتباء، وحبوناه بوفور الكرامة والاصطفاء، وأجريناه على مستمر رسمه بالرعاية على ذرية أهل العباء، حسب عادته المستقرة إلى آخر عهد من كانت الإيالة إليه وإلى رحمة الله مضى: ليسير فيهم بكتاب الله العظيم وسنة رسوله، ويسلك جدد الحق الذي يوصله من الزلفى إلى أقصى مناه وسوله، ويحضهم على تلاوة القرآن، ومعرفة مايصلح للأديان. وليسوا في الحكم بين الضعيف فيهم والقوي، ويعم بالإنصاف الفقير والغني، وليحسن إلى محسنهم، وليجر على فضله لمسيئهم، بعد أن يقدم إليه زجراً ووعيداً، ويوسعه إنذاراً وتهديداً، فإن وعى وارعوى وإلا سلط عليه أسباب الأذى، وتولاه بما ستحقه من الجزا، ويعيده إلى حالة الاستقامة والاستواء، ويكفه عن دواعي الهوى. ومن وجب عليه حد أقامه فيه، وبادر إلى اعتماده وتوخيه، حسب ما يوجبه حكم الشرع ويقتضيه.
وليكن رؤوفاً بهم ما استقاموا، ومنتقماً منهم ما اعوجوا ومالوا؛ وإن وجب على أحدهم حق لملي أو دني، استخلصه منه ولم يمنعه تعلقه بنسبٍ شريف علي، وإن افترى منهم مفتر على أحد من الملل، قابله عليه بمايزجره عن قبيح العمل: فإن الناس في دار الإسلام ومن هو تحت الذمام سواسية، وأقربهم إلى الله تعالى من كانت سيرته في الإسلام رضية، وطويته في الإيمان خالصةً نقيةً، ومن حكم عليه حاكم من الحكام، بحق ثبت عنده بالبينة العادلة أو الإعلام، انتزعه منه أو سبحنه عليه، إلى أن يرضى خصمه أو يرد أمره إلى الحاكم ويفوضه إليه.
وليحرس أنسابهم بإثبات أصولها، وتحقيق فروعها، ومن رام دخولاً فيه بدعوى يبطل فيها نقب عن كشف حاله، وإظهار محاله، وجازاه بما يستحقه أمثاله، ويرتدع فيما بعد مثاله: ليخلص هذا النسب الكريم، من دعوى المجهول، واندماجه في أسرة الرسول، عليه أفضل الصلاة والتسليم، ويمنع من اتصال أيم من الأسرة إلى عامي، ولايفسح أن يعقد عليها عقد إلا لكفء ملي: ليبرأ هذا المجد الشريف من التكدير، ولا تزيفه شوائب التغيير.
ولينظر في الوقوف على المشاهد والذرية، نظراً يحمده عليه من يعلمه من البرية، ويحظيه بالصواب عند مالك المشية، ويبتديء بعمارة أصولها واستكمال فروعها، وقسمة مغلها على ماتضمنه شرط الواقفين لها، وليحتط على النذور، وينفقها على عادتها في المصالح والجمهور، عالماً أن الله تعالى سائله عما توخاه في جميع ابلأمور، وأنه لايخفى عليه كل خفي مستور. قال الله سبحانه: {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار}
وأذنا له أن يستنيب عنه في حال حياته، وبعد وفاته- فسح الله له في المهل، وخوله صالح العمل- الأرشد من بنيه، ومن يختاره لهذا الأمر وله يرتضيه. وقد أنعمنا عليه بإجراء ما كان باسمه مستمراً إلى الآن، وأضفنا إليه ما يعينه على النظر في مصالح الأشرة أدام الله له علة الشأن، من تمليكٍ وإدرارٍ وتيسير، وجعلناه له مستمراً، وعليه مستقراً، ويمن بعده من نسله والأعقاب، على توالي الأزمان والأحقاب، وحظرنا تغييره وفسخه، وتبديله ونسخه: {فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم} وهو معين من ديوان الاستيفاء المعمور، بهذا المنشور المسطور، بالأمر العالي أعلاه الله وأمضاه، عما كان قديماً، وما أنعم عليه به آخراً، وهو القديم الذي كان له وشهد به الديوان المعمور، وهو الإقطاع من ناحية كذا، ويجرى على عادته في إطلاق ما قرر له من ناحية كذا بشهادة الديوان الفلاني، والمحدد الذي أنعم به عليه لاستقبال سنة سبع وسبعين وما بعدها. وسبيل كافة الأسرة الطالبيين بمدينة كذا الانقياد إلى تباعته، والامتثال لاشارته، والتوفر على إجلاله وكرامته، فإنه زعيمهم، ومقدمهم ورئيسهم، ومن خالفه منهم قابلناه، وبأليم العقاب جازيناه، والاعتماد في ذلك أجمع على التوقيع الأشرف العالي أعلاه الله والعلائم الديوانية فيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية الشرقية، وهي: لما كانت الأعمال الشرقية أجدر البلاد بأكيد الاهتمام وأخلق، وأولاها بإضفاء سربال الاهتبال الذي لا يخلق إذا رث سواه وأخلق، وأقمنها بحسن نظر يرسل لرسول على الرسم الأعنة في أدامة نضرة العمارة عليها ويطلق، وأحقها بأن يبرم لها سبب تفقد لا يلتصق به رهن ولا يغلق، وأجراها باعتناءٍ يقضي لأمرها بالاطراد، وأولاها بتعهد يجعل مصالح الشؤون آلفة للثواء بها والمقام عائفةً للنشوز عنها والشراد، لأنها باب الشام، وإليها ترد القوافل المترددة منه على مر الأيام، ومنها يستكشف الأخبار ويستنهض الطوالع والمتخبرين، وبمواصلة التفقد تعلم الأحوال الطارئة في كل وقت وحين، فتجب المبالغة في حفظ طرقاتها ومياهها، وأن تصرف الهمم إلى ضبط أحوالها، وعامة أنقابها واتجاهها، ويوضع بناء الحزم في صون أطرافها على أثبت قاعدة ويؤسس، ويبالغ في إذكاء العيون على كل طارق يتخير للعدو الملعون ويتجسس؛ وكنت أيها الأمير من المشهورين بالشجاعة والإقدام، وذوي الكفاية الموفي ثراؤهم فيها على عارض الإعدام، ومازلت معدوداً من خاص الأتراك الأعيان سهم، المقصر مجاروهم إلى غاية البسالة عن اللحاق بهم والإدراك؛ وقد تقدمت وولايتك هذه الأعمال فقصدت منها قصداً سديداً، وألحفت الرعايا ظلاً من الأمنة مديداً- خرج الأمر بإيداع هذا المنشور ما أنعم به عليك من إعادتك إلى ولايتها، فبالغ في استيضاح الأنباء وكشفها، ورفع الونية في ذلك وصرفها، ووكل به عزمة لا تلم سنة بطرفها، وانته فيه إلى غايةٍ تضيق سعة القول بوصفها، وتابع في تسيير الطلائع وندبها، وعول من كل قبيلة من العربان المستنهضين على شهمها وندبها، واجتهد في حفظ الطرقات والمناهل، واستنهض للتحرز عليها من هو عالم بها غير جاهل، وتحفظ من جلل يتطرق- والعياذ بالله- على البلاد وخلل يتخللها، وانتض لهذه المهمات بصارم حد تسلم مضاربه من عجز يفللها، ولاتبق ممكناً في إنفاذ المتخبرين، وإرسال من يغير على بلاد العدو من الخبيرين، بماأن هذه سبيل المتدربين، وألزم أرباب الحدود من جميع الأقطار حراسة حدودهم، وخذهم باستنفاد وسعهم في الاحتياط واستفراغ مجهودهم، وطالع بما يورد قبلك؛ وأنه مايزيح بسرعة إجابتك عنه في الخدمة عللك؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية المرتاحية، وهي: خرج الأمر بكتب هذا المنشور وتضمينه: إن من أظهر خلاصة جوهره السبك، وارتفع في إشكائه بالإنصاف عن كل شاكٍ الشك، وحصل عنده من الخلال الزكية نظم لاينحل وعقد لاينفك وأوفى على التقدير والظن في التدبير المفرج به عن الرعية الضنك- استوجب أن تسند إليه حمايتهم، وتجعل إليه كلاءتهم.
ولما كنت أيها الأمير ممن أحمد عند بحر عزمه، وتجريب نصل حزمه، واعتبار فصل مقالته، واختبار أصل أصالته، وشكر استمراره على الاتصاف بمحض الولاء، واستدراره أخلاف غرر الآلاء، واستثماره أصناف جنى الثناء واستقراره أكناف وهبي الاعتناء، ولم تزل في رفعتك وجيهاً، وما برح جميل الرأي يديم بعثاً لتحف الإحسان نحوك وتوجيهاً، وما انفكت مجاهدتك مجاهدةً في مهام إقدام تنويهاً، وشجاعتك ملقيةً على الكفار كل كفاح يلقون منه كلاً ثقيلاً ويوماً كريهاً. أودع هذا المنشور مارسم من استخدامك في ولاية الأعمال المرتاحية.
فباشرها معتمداً على تقوى الله سبحانه التي تقوى بها أسباب توفيقك وتناله، وستلم أمور مباشرتك من خلل يكدر استبشارك وينكد، واعتد العدل على من تشتمل عليه هذه الولاية وتحويه، وبالغ فيما يزيل عنهم الحيف ويزويه، واقصد ما يقضي لسربهم بالتأمين، ويبلغهم من تحصين أوطانهم غاية التأميل، واجعل أيدي المفسدين مكفوفة عن كافتهم، ووجوه المعتدين مصروفةً عن إخافتهم، وتطلب الأشارا، وتتبع الدعار؛ ومن ظفرت به منهم فلا تكن عن التكيل به ناكلاً، ولاتقصر في الحوطة عليه والمطالعة به عاجلاً، وعامل النائب في الحكم لاعزيز بانهاضه، وصون مديد باعه في تنفيذ الأحكام عن انقباضه، واعضده في إنفاذ قضاياه، واختصاصه بإكرام يقبل عليه مطلق محياه، وشد من الضامن في استيداء حقوق الديوان واستنطاقها على أحسن حال من غير خروج عن الضرائب المستقرة، وعوائد العدل المستمرة، وتحرز أن يكون لمناهضة العدو طروق إلى ناحيتك أو انتياب، وشمر للتحفظ من مكايدهم تشميراً يزول عن حقيقته عارض الارتياب، ولاتبق شيئاً يمكن لأهل ولايتك قواعد الأمنة منهم، وتبتل لوقايتهم أذاهم تبتل من لاينام عنهم، وطالع بما يحتاج إلى علمه من جهتك إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة بولاية السمنودية، وهي: إن أولى من ولي الأعمال، وتعلقت بكفايته الآمال، وعدقت به المهمات، وأسندت إليه الولايات، من نطقت بمعدلته الألسنة، وانتفت عن عين خبرته السنة، وكان حسن السياسة لرعيته، كثير العمارة مدة توليته، شهماً في استخراج الحقوق من جهاتها، صارماً في ردع المجرمين عن زلات النفس وهفواتها، حسنةً سيرته، خالصةً مناصحته وسريرته.
ولما كنت أيها الأمير فلان- أدام الله تأييدك وتسديدك، وحراستك وتمهيدك- أنت المتوشح بهذه الصفات الحسان، المتصف بما تقدم من الشرح والبيان، الذي نطقت شمائلك بشهامتك، وشهدت مخايلك بنباهتك- خرج الأمر الفلاني بأن تتولى مدينة سمنود وضواحيها، وماهو معروف بها ومنسوب إليها، بشرط بسط العدل ونشره، وإعباق عرف الحق ونشره، وأن تخفف الوطأة عنهم وتفعل ماهوأولى، وتعلم أنك تسأل من الله تعالى في الأخرى ومنا في الأولى، وأن تصون الرعايا وتجتلب لنا أدعيتهم، وتعاملهم بما يطيب نفوسهم ويبلغهم بغيتهم؛ حتى يتساوى في الحق ضعيفهم وقويهم، ورشيدهم وغويهم، ومليهم ودينهم، وأن لاتقيم الحدود على من وجبت عليه إلا بمقتضى الشرع الشريف، والعدل المنيف، وأن لاتقيم الحدود على من وجبت عليه إلا بمقتضى الشرع الشريف، والعدل المنيف، وأن تشد من نواب الحكم العزيز، وتفعل في ذلك فعل المهذب ذي التمييز، وأن تحسر عن ساعد الاجتهاد في الجمع بين استخراج حميع الحقوق الديوانيه والعمارة، وتجعل تقوى الله هي البطانة لك والظهارة، وأن تبذل النهضة في استخراج الأموال، وتحصيل الغلال على التمام والكمال، بحيث لايتأخر منها الدرهم الفرد ولاالقدح الواحد، وتفعل في فعل المشفق المشمر الجاهد، وأن تديم مباشرتك للأقصاب في حال برشها وزراعتها وتربيتها وحملها، واعتصارها وطبخها، وتزكية أثمارها، بحيث لاتكل الأمر في شيء من ذلك إلى غير ذي ذمة بمفرده، ولاإلى من ليس بذي خبرة لايعلم مشقي التصرف من مسعده وقد جعلنا لك النظر على جميع النواحي الجارية في ديواننا بالوجه البحري خاصةً لتنظر في أمرها، وتزجر أهل الجنايات بها، وتفعل فيهاكل مايحمد به الأثر، ويطيب بسماعه الخبر.
فتقلد ماقلدت، وقم حق القيام بما إليه ندبت، واعمل فيه بتقوى الله في سرك وجهرك، وقدم الخوف من الله على جميع ماتأتيه أو تذره من أمرك، وتسلمه شاكراً اما أسديناه إليك، متمسكاً بما أوجبناه عليك،؛ فإن الشكر يوجب مزيدك، ويكثر عديدك.
وهذه نسخة بولاية النستراوية، وهي:
من عادتنا في التدبير وشيمتنا، وسنتنا في السياسة وسيرتنا، إسباغ المواهب والنعم، وتنقيل عبيدنا في مراتب الخدم، استرشاداً بأسلافنا الملوك واقتداءً، واستضاءةً بأنوارهم المشرقة واهتداءً.
ولما كنت أيها الأمير ممن عرفت بسالته، واشتهرت شجاعته وصرامته، واستحق أن يلحظ بعين الرعاية، وأن يشرف بالارتضاء للتعويل عليه في ولاية، رأينا- وبالله توفيقنا- استخدامك في ولاية الأعمال النستراوية، وخرج أمرنا إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ذلك، وتضمينه ما تعتمد عليه، وتنتهي إلى الممثل لك فيه.
فتقلد ماقلدته عاملاً بتقوى الله فيما تسره وتعلنه، معتمداً فيها على غاية ما يستطيعه المكلف ونهاية مايمكنه؛ فالله تعالى يقول إرشاداً للمؤمنين وتفهيماً: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقوللوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}، وساو بين القوى من هذه الولاية والضعيف، ولاتجعل في الحق فرقاً بين المشروف والشريف، وامدد على كافتهم رواق السكون والأمنة، وأجرهم في المعدلةعلى العادة الجميلة الحسنة، وافعل في إقامة الحدود على من تجب عليه مايوجبه كتاب الله الكريم، وتقضي به سنة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة التسليم، وادأب في حفظ السبل والمسالك، واجتهد في ذلك الاجتهاد الذي يجب على أنظارك وأمثالك؛ ومتى ظفرت بمن يؤذي مسافراً، أو يخيف وارداً أو صادراً، فطالع بحاله ليمثل لك في التمثيل بما تعتمده، وتؤمر في شأنه بما تنتهي إليه وتقصده، وراع المستخدمين على الحكم والدعوة فهما يتوليان ما بإعزازه يقوم منار الإسلام، وتجري أمور الشريعة على أجمل وضع وأحسن نظام، وخذ المستخدمين في الأموال الديوانية بالاجتهاد في العمارة، وحمل المعاملين على ما توجبه المعدلة والحرص على ماوفر الارتفاع، وحماه من أسباب التفريط والضياع، واستنهض الرجال المستخدمين معك فيما ترى ندبهم إليه، واستنهاضهم فيه؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى، وهذه نسخة بولاية الأسكندرية، وهي: اهتمامنا بما حاط ثغر الإسكندرية- حماه الله تعالى وحصنه، ومنحه أتم حظ التفقد وأكمله، وأجمل وضع التعهد وأحسنه، وقوى سبب استقامة شؤونه واتساق أموره ومكنه، ومد ظل الدعة والسكون على كافة من تديره وسكنه، وحفظ عليه نظام النضارة، وأماط عنه مكروه الأحوال الضارة، وأنام أهله على مضجع الأمن ومهاده، وحكم بإحلالهم نجود الاتحاد على المصالح وإجلالهم عن وهاده، وحمى سوام أموالهم من مشروب ورد أجاج ومرعى نبتٍ وخيم، وجباهم من رسوم الإحسان وعوائده مالاينطبق لسان على زوائده بترخيم، وملا آمال الأعداء عن التطرق إليه إخفاقاً، ورد نصول سهام مكايدهم عنه على ما عهد من فضل الله سبحانه أفواقاً- إذ كان من أجل الثغور الإسلامية أوزاراً، وأسبقها إلى غاية التفضيل ابتداراً، وأكثرهم بمن حواه من صدور الدين وأئمة المسلمين افتخاراً، وأفضلها محلاً ولم يزل مفزع السفار من كل جهةٍ رسلاً وتجاراً أوجب أن نسند ولايته، ونرد كلاءته، إلى من يجري في التدبير على حكم سياسته المعلوم، الحسني الآخذ بيد المظلوم، ويقوم بحسن التفويض والائتمان، ويعطي بذل السلامة من حقوق انتقامه عهدة الأمان، ويسلك فيما يعدق به طريق السداد ويلزم نهجه، ولا يمكن أن يكون له علي غير الصواب معاج ولاعرجة؛ ويأخذ في كل أحواله بوثائق الحزم، وتحل له أعماله الصالحة من مثوى المنازل الرفيعا ماهو على غيره من الحرام الجزم.
ولما كان الأمير المعني بهذا الوصف الواضح البيان، المتكافئة في ذكر مناقبه شهادة السماع والعيان، الكاليء مايناط به بقلب ألمعي وطرف يقظان، الحال من الورع في أسمى مكان وأعلى مظان، الجامع في إقامة شرع الإخلاص بين الفرائض والسنن، الموفيه عزائمه على مضارب المهندة التي لا تقي منها مانعات الجنن، الفائح من نبئه ماتؤثر صحاح الأنباء عن عليل نسيمه، الجدير بما يزف إليه من عقائل جزيل الإنعام وجسيمه؛ وقد أبان في ولايته بمطابقته بين شدته ولينه، وإقامة منار الإنصاف المعرب عن امتداد باعه في الحرب وانقباض يمينه، وإروائه كافة أهلها من نمير العون على استتباب الأمور ومعينه- خرج أمر الملك العادل بتقليده ولاية ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى والبحيرة.
فليتقلد ماقلده إياه، ويباشره منشرحاً صدره متهللاً محياه، وليعتمد على تقوى الله التي هي خير عتاد، وأفضل مااعتمد عليه في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد؛ وهي نجاة أهل اليقين، وفوز المتقين، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وليبالغ في نشر العدل ومد جناحه، وتعفية أذى الجور واجتياحه وليشمل الصغير والكبير من أهل الولاية برداء النصفة، ويعاملهم بالجميل الموفي على الصفة، ويقم الحدود على مستوجبيها، وينته إلى الغاية في تجنب إضاعتها وتوقيها، وليدل على المفسدين عين من يتتبع وقوعهم في قبضته ويتطلب، ويقابل كلاً منهم بما يرى متعقباً بإيماض برق المعاقبة غير خلب، ولايبق ممكناً في التنقيب على مرتكبي الآثام، والمرتكنين على سفك الدم الحرام؛ ومن ظفر به منهم فليحكم فيه شبا ظفر الانتقام ونابه، ويقابله من الردع بما يؤمن من معاودة عادات التعدي على كل حقير ونابه، وليجر على عادته فيما يسير عنه أحسن السمعة، ويشهد له بالتنزه عن خبيث الطعمة وقبيح الطعمة، ويشد من القاضي متولي الحكم فيما يصدره ويورده، ويحله ويعقده، ويمضيه من الأحكام الشرعية، ويعتمده في القضايا بما لديه من الألمعية، ويعاضد المستخدمين في الأموال معاضده تثمره، وتنمي الارتفاع وتوفره، وتعود على الديوان بالحظ الوافي، وتعرب عن كونه بمثل هذه الولاية نعم الكفء الكافي، ويعامل التجار على تباين بلدانهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم، معاملةً بجمل أثرها ويحسن، ويتلقهم ببشر وطلاقةٍ تنطق بشكر استبشارهم بها الألسن ويحفظهم في أنفسهم وبضائعه، ويستنفذ الوسع في دفع مضارهم وروائعهم، ويعتمد بعث رجاله على الاستعداد للجهاد، والتأهب لقراع الأضداد، وينته إلى الغاية فيما يزيل منهم اعتذاراً ويزيح اعتلالاً، ويوجب لهم الاقتدار على مكافحة عدو إن طرق الثغر والعياذ بالله تعالى.
وهذه نسخة بولاية برقة، وهي: من حق الأطراف المتناهية في بعد أقطارها، والبلاد الشاسعة عن ثواء المملكة ومحل استقراراها، التي انتظمت في سلك أعمال المملكة الناصرية وانخرطت، واستدركت معداتها لمن حوته فوائت الفوائد التي سلفت وفرطت- أن يديم أكيد الاهتمام لها التحصين والتحسين، ولايغب أهلها مايغشاهم من الملاحظات مصبحين وممسين، وتزجي لها سحائب كرم التعهد عهاده غدقاً، ويعمل الأولياء في حياطتها من الغمود ألسنةً ويذكون دونها من القنا حدقاً، ويفوض أمورهم إلى من تخف على يده كلفتهم، وتجتمع بحسن سيرته ألفتهم، ويشتمل من عنايته عليهم اشتمال الصدفة على القلوب، وتنيلهم مهابته من كف عدوى العدا كل مؤثر مطلوب.
ولما كنت أيها الأمير من أميز سالكي هذه الطرائق، وأمثل فرسان الحروب وحماة الحقائق، وأشجع المجاهدين في الله حق جهاده، وأجسرهم على إصلاء الشرك ضرام فتكٍ لايخشى أصلاد زناده، ولك السياسة التي ترتب بين الأسود والظباء اصطحاباً، والمخالصة التي لاتناجى إذا وصفت بالتغالي فيها ولاتحابى- خرج أمر الملك العادب بكتب هذا المنشور لك بما أنعم عليك بولايته وإقطاعه: وهو برقة بجميع أعمالها وحقوقها: من العقبة الصغرى وإلى آخر حدودها، وبما أمر به كافة العربان المقيمين بهذه البلاد، وجميع أهلها من حاضر وباد: من الإعلان لك بشعار الطاعة، وصون مايلزمهم أداؤه إليك من فروض النصح عن الإضاعة، وأن يبذلوا في موافقتك غاية الاجتهاد، ويعتمدوا من امتثال مراسمك أحسن اعتماد، ويحذروا من العدول عن أمرك، ويجتنبوا مخالفة نهيك وزجرك؛ فاستمسك بحبل التقوى الفائز من يعتصم به ويتعلق، واستشعر من خيفة الله مايشرق لأجله عليك نور الرضوان ويتألق. قال الله تعالى في كتابه المكنون: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} وعامل أهل هذه الولاية بالإنصاف، وإياك ومكروه العدول عن محجة العدل والإنحراف، وتوق العسف بهم والحيف عليهم، واجتنب الترخيص لأصحابك في مد يد أحدٍ منهم بعدوان إليهم، وسر فيهم سيرة ترؤف بهم وترفق، وجانب سبيل من تقوم عنده أسواق اختلاق المتخرصين وتنفق، ولاتخرج في تدبير الأمور عن قانون الشريعة، ولاتجعل لك إلى فوز الآخرة عن تقديم العمل الصالح من ذريعة، وغل عنهم أيدي حاضري المفسدين وأياديهم، وأبنهم بالمهابة عن إصرارهم على المنكرات وتماديهم، وكل يهم عزماً رادعاً لهم وازعاً، ونكل بمن ظفرت به منهم تنكيلاً يزجر من يظل بحر الضلال نازعاً، وشد من خلفاء الحكم العزيز في تنفيذ قضاياه، وخصهم من الكرامة بما تقتضيه إقامة مناره وإنارة مزاياه، واعتمد مايعيد الحقائق بوجوه ناضرة، ويرد الأباطيل بصفقةٍ خاسرة، وراع أمور التجار والحجاج مراعاةً تشملهم في السفر والإقامة، وتحميهم من تطرق استهانةٍ إلى أحد منهم واستضامة، وطالع بما يتجدد من أحوال خدمتك، ومايحتاج إلى علمه من جهتك، إن شاء الله عز وجل.
وهذه نسخة بولاية الفرما، وهي: نحن- لما ضاعفه الله لدينا من إحسانه وأجزله، وعدقه بنا من تدبير أمور الخلق وأسنده إلينا ووكله- نعتمد عبيدنا بتوفير الرعاية لهم والإكرام، ونحافظ على ما يغمرهم من شامل الأفضال وسابغ الإنعام، فنقدم للخدم من خطبها بخلوص طاعته، ونؤهل للرتب من أبانت شيمته عن خبرته ومناصحته.
ولما كنت أيها الأمير ممن ظهرت مشايعته وموالاته، وحسنت في مكافحة الأعداء مشاهده ومقاماته، ووضحت في أفعاله دلائل وبانت عليه سماته، ولك مساع مشكورة، ومواقف مشهورة، ومقاصده هي من مآثرك معدودة وفي فضائلك مذكورة، رأينا- وبالله توفيقنا- استخدامك في ولاية الفرما والجفار: سكوناً إلى رضا مذهبك، وثقة بانتظام الحال فيما يرد إليك ويناط بك؛ وخرج أمرنا إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك الولاية المذكورة وتضمينه مانأمر به ونرسمه، مما يهديك إلى الصواب فتتمسك به وتعكف عليه وتلزمه.
فتقلد ماقلدته شاكراً على هذه النعمى، عاملاً بطاعة الله تعالى ومراقبته في السر والنجوى، واعتدها زاداً إلى الآخرة تطمئن به القلوب وتقوى؛ قال الله عز من قائل في كتابه: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}. واعتمد في أهل هذه الولاية نصفة تعمهم ومعدلة، وسسهم سياسة تكون لسنة الخير مؤكدة ولسنة الجور مبدلة، ومائل في الحق بين قويهم وضعيفهم، ولاتجعل مزيةً في الواجب لشريفهم على مشروفهم، وانتصف للمظلوم من المعتدي الظالم، واعمل بالكتاب والسنة في الحدود التي تقيمها على ذوي الجرائر والجرائم، وانتصب لحفظ الطرقات، وصون الصادرين والواردين في جميع الأوقات، ونكل بمن تظفر به من المفسدين، واجعله عظةً لأمثاله من الظالمين والمعتدين، وعاصد النائب في الحكم العزيز معاضدةً تقضي بإعزاز الجانب، وساعده مساعدةً تنفذ بها أحكامه على قضيةً الواجب، وكذلك متولي الدعوة الهادية فهي مصباح الزمان، وبإشادة ذكره تقوى دعائم الإيمان؛ فاجتهد في تمييز متوليها وإكرامه، وبلغه في ذلك غاية مطلوبه ومرامه، وتوفر على الشد من المستخدمين في الأموال، وراعمايحسن لدينا فيما تنظر فيه من الأعمال، واحرص على ماعاد بوفور ارتفاعها، واجر أحوالها على أفضل رسومها وأوضاعها، بحيث يكون العدل منبسطاً منبثاً، والحيف منحسماً مجتثاً، واجمل صحبة الرجال المستخدمين معك، وأحسن معاشرتهم مع مطالبتهم بملازمة الخدمة، واستنهاضهم في الأمور الشاقة المهمة، فاعلم هذا واعمل به، وطالع بما تحتاج إلى المطالعة به، إن شاء الله تعالى.
وهذ نسخة بولاية عسقلان، وهي: من شيمنا التي غدت للمصالح ضوامن، وعلت فكل متطأول عندها متطامن، وهممنا الكافلةللرعية بما يقر عيونها، والقاضية للخاصة والعامة بما يوجب طمأنينتها وسكونها- أنعمنا النظر فيمانرعاها به ونسوسها، وأعملنا الفكر فيما يستقيم به أمرها ويزول معه بوسها، فيقف بنا الاجتهاد في ذلك على محجة الصواب التي لاضلال في سلوكها، ويفضي منا الحرص إلى غاية لم يبلغها أحد من مدبري الدول وملوكها، فننتخب لخطير الخدم من كان قؤوماً بها مستقبلاً بآصارها، وننتجب لجليل الرتب الأعيان من أمراء دولتنا وأنصارهاحفظاً لما استحفظناه من أمور العباد والبلاد، ورفعاً لعماد الصلاح وحسماً لمواد الفساد.
ولما كنت أيها الأمير من الأولياء الذين صفت في المخالصة ضمائرهم، وحسنت في الطاعة عقائدهم وسرائرهم، ونالوا من نبيه الحظ ماأطنب الواصف فيما يذكره منه ويرويه، وأحمدوا المناصحة فيما رقوا فيه من درج التنويه، وقد استكيفت مهماتتٍ من الخدم فكفيت همها وخففت ثقلها، وأهلت لولايات سنية فحملت كلها، وكنت مستحقاً لها وأهلها؛ فلك موات حميدة من حسن المقاصد ومشكور المساعي، وحرمات أكيدة ظلت على اصطفائك من أوفى البواعث وأقوى الدواعي؛ وكانت مدينة عسقلان- حماها الله تعالى- ثغر الإسلام الذي لاثغر له في الشام سواه، والرباط الذي من كان به فقد نال الثواب الجزيل وأحرزه وحواه، وهو في عيون الكفار- خذلهم الله- نكتة وأسباب طمعهم فيه منقطعة بمحاماته منبتة؛ ونحن نوفر اهتمامنا عليه رعايةً لمكانه المكين، وننتصي الكفاة لتزليه توصلاً إلى النكاية في المشركين؛ وهو معقل للمسلمين المجاهدين ورد، ومجاوروه قوم لد، وأمرهم أمر إد؛ فيجب أن يرتاد لضبططه الندب الذي لاتهتبل غرته، ويسام لحفظه العضب الذي لا تتقى ضربته، ويختار لصونه الشهم الذي تقف على المصالح همته، وتنفذ فيها عزمته.
وحين كانت هذه الصفات فيك موجودة، وظلت محسوبةً من خلالك معدودة، رأينا- وبالله توفيقنا- ماخرج به أمرنا إلى ديوان غلإنشاء من كتب هذا السجل بتقليدك ولاية هذا الثغر وضواحيه، وعمله ونواحيه، ثقة بمشهور مضائك، وعلماً بإبراراك على نظرائك.
فتقلد هذه الخدمة عارفاً قدر ماخولت منها، وعاملاً بتقوى الله وخيفته في جميع ماتأمر به وتنهى؛ فإن تقواه الجنة الواقية، وإن خيفته الذخيرة الواقية، وإن خيفته الذخيرة الباقية؛ وقد وعد الله المتقين بتيسير الأمور، وتكفير السيئات وإعظام الأجور؛ قال الله عز من قائل: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً}. ثم قال: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً}. واستعمل العدل في جميع من يشتمل عليه عملك، ويجري عليه توليك ونظرك، وساو في الحق بين الضعيف والقوي، وماثل في الحكم بين القريب والقصي؛ وإذا ثبت على شريفٍ حق فلا تحابه لرتبته، وإذا ثبت لوضيع فخذه ممن لزمه واستقر في جهته.
واعتمد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مايستنطق بالثناء عليك ألسنة المادحين وينظمك فيمن عناهم الله تعالى بقوله: {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.} وأقم الحدود على من لزمته بما أمر الله به إقامةً تجري بها مجراها، وتوق الزيادة فيها والنقص توقي من يتمثل المجازاة كأنه يراها، وهذا الثغر لمحله وسمو مقداره، وقرب العدو منه ودنو داره، لايقنع به بمركزيته، ولايكتفي في حقه بمرابطيته وقرارايته؛ فنحن نسير إليه العساكر المظفرة دفعتين في كل سنة على حكم البدل: فيرده عسكر جديد مزاح العلة، كثيف العدة، وافر العدة، يؤثر أن يظهر أثره، ويحافظ على مايطيب به ذكره وخبره؛ فبث السرايا وشن الغارات، وضيق على العدو فسيح النواحي والجهات، وجهز إليه من يخيفه في مآمنه، وابعث عليه من يطرقه في أحز أماكنه، واندب من يطالعك بخفي أخباره، ويظهر لك باطن أموره ومستور أسراره: لتنتهز فيه الفرصة إذ لاحت مخايلها، وتبادر الغفلة منه إذا ظهرت دلائلها، واجعل للمتطوعين من الكنانيين نصيباً من ثواب الجهاد، واحملهم على استفراغ الوسع بغاية الحرص والاجتهاد، وافعل في هذا الباب ما تتضاعف به مواد الأجر، وتنتسخ به الأوزار كما ينتسخ الظلام بضياء الفجر، واعضد متولي الحكم العزيز عضداً يعلي أمره ويشد أزره، ويحرس نظامه، وينفذ قضاياه وأحكامه، وكذلك متولي الدعوة الهادية- ثبتها الله تعالى- فاعتمده بما يشرح صدره فيما يوضحه للمؤمنين، ويهدي به المستجيبين والمتدينين، ووفر موفر اهتمامك على مرافدة من يتولى أمر المال ومايجري في الخاص لتدر أخلافه، ويزكو ارتفاعه، وتغزر مادته، ويتوفر مستخرجه، ويحتمي من خيانةٍ وتحيف، ويسلم استيداؤه من تريث وتوقف، واستنهض الرجال المستخدمين في الأمور السوانح، وصرفهم فيما ترى تصريفهم عليه من أسباب المنافع والمصالح، واستمطر الإحسان لمن أحمدت طريقته، وقوم بالتأديب ممن ذممت فعله وكرهت سيرته، فاعلم هذا واعمل به، وطالع بما يحتاج إلى المطالع بمثله، إن شاء عز وجل.
ومن المكتتب بالوظائف الديوانية من هذه المرتبة نسخة توقيع بنظر الدواوين، وهي: أحق الأعمال بأن ينعم فيها النظر الشافي، ويندب لحمل عبئها الأمين الكافي، ويحال النظر في تقليدها للقيم بأمرها، ويعمل الرأي لارتياد القوي على ضبطها وحصرها، ماكان منها جامعاً لمصالح الدولة، حائزاً لمهام المملكة: وهي أعمال الديوان، والنظر في حفظ وجوه الأموال ومايعين على استنمائها، ويعود بالزيادة في أصول أبوابها؛ إذ كان ذلك ملاك الأمور، وزمام التدبير في حفظ الجمهور، والمعونة العظمى على الاستكثار من الرجال الذين بهم يتم حفظ البلاد وحماية الثغور.
ولما سلطنا البحث على استصلاح من نؤهله لهذه المنزلة، واستخلاص من نحله بهذه المرتبة، أدانا الاختبار والانتقاد، وانتهى بنا الاعتيام والارتياد، إلى اختيار الشيخ فلان: حين سفرت به النباهة في الكفاية، والوجاهة في الخبرة والدراية، وجب.... على اختصاصه بالفضل بالفضل الذي تحلى بأدبه، والعفاف الذي اشتهر في مذهبه، من الخصال الحميدة، والخلال الرشيدة، والفضائل الموروثة والمكتسبة، والخلائق المنتقاة المهذبة، ورأيناه أهلاً لإحلال هذه المكانة، وعدلاً قيماً باحتمال هذه الأمانة، وعلمنا أن الصنيعة عنده زاكية المغارس، والنعمة المفاضة عليه ضافية الملابس؛ فقلدناه أمر الديوان بحلب ومامعها من البلاد المضافة إليها والداخلة في حكمها: قاصي ذلك ودانيه، وأواسطه وحواشيه، مقدمين الاستخارة فيما نبديه من قول، ونعزم عليه من فعل.
وأمرناه أن يستشعر تقوى الله سبحانه فإنها الجنة الوااقية، والذخيرة النافعة الباقية، ويعتلق أسبابها فإنها المنجية من المهالك، الهادية إلى السبل الواضحة إذا اشتبهت المسالك، محققاً ماتوسمناه فيه من مخايل الأصالة، ودلائل الجزالة، مصدقاً مااستلمحناه من كفايته وغنائه، واستوضحناه من استقلاقه واستقصائه، وأن يبدأ فيرتب في كل معاملة أميناً من الثقات الكفاة، مشهوداً له بالنهضة والأمانة المستوفاة، وأن يزم الأعمال القاصية والدانية، والبلاد القريبة والنائية، بالضبط المستقصي، والحفظ المستوفي، وبمن يرتبه عليها من الكتاب الأمناء، ويستصلحه لها من الحفظة النصحاء، ويتتبع حال من بها من النواب: فمن شهدت له التجربة بالكفاية، ودل الاختبار منه على العفة والأمانة، واستدامه في خدمة المنوطة به، وطالع من حاله بما يقضي له حسن النظر بحسبه، ومن ألفاه متنكباً سبيل الأمانة، مقارفاً طريق العجز والخيانة، بادر إلى الاستبدال به، وعجل قطع مابينه من الخدمة وبين سببه، وأن يسترفع البواقي من الأموال، في سائر الجهات والأعمال، إلى آخر التاريخ الذي تليه مباشرة، ويتصل بآخره مبدأ نظره وفاتحته، موشحةً أوراق ذلك بخطوط الأمناء، مفصلة جهاته بأسماء المعاملين والضمناء، حتى إذا حملت إليه، وصارت حجة على رافعها في يديه، طالبه بموافقة من هو في ذمته، وتقدم بعد تصديقه على ذلك بمضايقته بعد المطالعة بجلي الحال وحقيقته. ثم يسترفع من مستوفي الديوان وعماله شروط الضمان ورسومخهم، وقواعدهم في الضمان وعوائدهم: ليكون علم ذلك عنده مبيناً، ووقت مساس الحاجة إليه حاضراً، ويطالب بجرائد الضياع خاصها ومقطعها المشتملة على ذكر رسومها وحقوقها، وعدد فدنها ومقاسها، وجرائد الخراج اللازم لأرباب الأملاك على أملاكهم، وتحقيق المصفوح عنه والمسامح به والباقي على الأداء في مهته، وجرائد الجزية مفصلةً في نواحيها، وأسماء أرباب إلى حين رفعها- وأن يطالب نواب الجزية في كل شهر بختمة تتضمن ذكر مصارف مايحول إليهم، وإقامة وجوه المال الذي جمع عليهم، مفصلة مميزة الابتياعات عن غلإطلاقات، والضيافات عن السفرات والإصطبلات، وكذلك نواب الأهراء يسترفع منهم مايدل على مثل ذلك، وسائر المتولين في سائر الخدم يطالبهم بهذه المطالبة، ويضيق عليهم في مثل ذلك سبيل المغالطة والمواربة، ويجعل مؤاخذتهم بذلكمن الأمور الراتبة، والوظائف اللازمة الواجبة، حتى يتبين له الكافي من العاجز، والأمين من الخائن.
وليتأمل وجوه الإخراجات، ومبلغ الإطلاقات والإدرارات، ويسترفعه من مظانه وفصلاً بجهاته، منسوباً إلى أربابه، ويتقدم بكتب مؤامرةًجامعة لذلك التفصيل، دالة على المقدار المطلق في كل سنة محكم النظر الدقيق دون الجليل، وليعتمد في إطلاق مايطلق منها على سبيل مايوقع به عند ذلك، وليكن هذا من الأمور الجارية على العادة والرسم، ويلزمه كل من نواب الديوان.
ومن المكتتب منها بالوظائف الدينية نسخة تقليد بولاية الحسبة، من إنشاء الوزير ضياء الدين بن الأثير، وهي: {ولتكن أمة منكم يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
هذا أمر يشتمل على معنى الخصوص دون العموم، ولايختص به إلا ذوو الأوامر المطاعة أو ذوو العلوم؛ وقد منحنا الله هذين الوصفين كليهما، وجعلنا من المسخلفين عليهما.
فلنبدأ أولا بحمده الذي هو سبب للمزيد، ثم لنأخذ في القيام بأمره الذي هو على كل نفس رقيب عتيد؛ ولاريب أن إصلاح العباد يسري إلى الأرض حتى تزكو بطونها، وتنمو عيونها، ويشترك في بركات السماء ساكنها ومسكونها؛ والأمر بذلك حمل إن لم تتوزعه الأكف ثقل على الرقاب، وإذا انتشرت أطراف البلاد فإنها تفتقر إلى مساعدة من مستنيب ومستناب؛ وقد اخترنا لميدنة كذا رجلاً لم نأل في اختياره جهداً، وقدمنا فيه خيرة الله التي إذا صدقت نيتها صادفت رشداً، وهو أنت أيها الشيخ فلان.
فابسط يدك بقوة إلى أخذ هذا الكتاب، وكن حسنة من حسناتنا التي لم يرجح بها ميزان الثواب، وحقق نظرنا فيك فأنه من نور الله الذي ليس دونه من حجاب.
واعلم أن أمر الشريعة مبني على التيسير لاعلى التعسير، ولايضع اللسان موضع السوط إلا من أوتى زيادةً في التفسير؛ وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مندوحة لمن لزمها، وهي هدى لمن عمل يها ونور لمن عليماه؛ ويكفي من ذلك قصة الأعرابي الذي أتى حاجته في المسجد فسارع الناس إليه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، ثم دعا بذنوب من ماء فصبه عليه وقال: «يا أخا العرب إن المساجد لم توضع لشيء من هذا وإنما وضعت للصلاة وقراءة القرآن».
فانظر إلى هذا الرفق النبوي الذي شفى وكفى، وعفى على أثر المعصية لما عفا؛ ولودعا ذلك الأعرابي لمثلها لنقل عن لين التهذيب، إلى شدة التأديب؛ وكذلك فكن أنت في الرفق الذي حدثت عنه، ومن عاد فينتقم الله منه.
ونحن نأمرك أن تحتسب أولاً بلين القول لا بالأنف والنكير، وأن تترفق في الموعظة التي هي طريق إلى الخشية والتذكير، وأن لاتكون باحتسابك مدلاً بأنك على الصراط المستقيم، وأن الناس بين يديك على سنن التثقيف والتقويم؛ فإن من أكبر الذنوب ذنب الإعجاب، والأولى لك حينئذ أن تعود على نفسك بالاحتساب؛ ومن أدبك وأدب أمثالك أن يقف في أمره بالمعروف مع التقوى لامع هواه، وأن لايفرق في إزالة المعصية أن تكون بيده أو بيد أحد سواه؛ وإذا كنت كذلك قرنك الله بمن أنزل السكينة على لسانه ويده، وقوم له أود الناس لتقويم أوده، والله ينظر إلى قلب ابن آدم لا إلى عمله ولاإلى جسده. وعليك بالمجاهدين الذين سلب عنهم ثوب العافية، ومن اختفى منك بالاستتار فلا تكشف عن حاله الهافية؛ وأما ذوو الهيئات فإن عثراتهم تقال، وأعراضهم لا تذال، ولربما كان التجاوز عنهم داعياً إلى الانتقال؛ وفي قصة أبي محجنٍ وسعد ماينبئك أن الحياة أغنى في الازدجار، وفي الناس أذناب لاقدر لها تذب عنه ورؤوس تذب عما لها من الأقدار. وهاهنا من ضروريات الوصايا مايؤتى في مثله بتوكيد الأقزال، وأكثر ذلك يدور في المعاملات التي ألفها قوم دون قوم، واستمروا عليها يوماً دون يوم؛ وقد أتى منها مااتفق على العمل به كل فريق، وأيسر ذلك إزالة النخامة من المسجد وإماطة الأذى عن الطريق.
وهذه الوصايا كلها لاتفتقر فيها إلى التوقيف، وأنت عالم بوضع كلمها في مواضعه وغيرك الذي يتعدى إلى التحريف؛ فامض على السنن، وأت بالحسن، وسو بين حالتيك في السر والعلن، وكن من خوف الله ورجائه بين رحلة سفر وقرارة وطن. وهذا عهدنا إليك تتقمص اليوم منه رداءً جميلاً، وستحمل غداً منه عبئاً ثقيلاً، وقد فرضنا لك عن حق سعيك فريضةً تجد بها كفافاً، وتمنعك أن تمد عينيك إلى غيرها استشرافاً؛ فإن العمل الذي توليته ستغرق أوقاتك أن تكون للدنيا كاسبة، وتشغل نفسك بالعمل والنصب لاأن تكون عاملةً ناصبة.
وإذا نظرت إلى مانيط بك وجدته قد استحصى الزمن أو كاد، وأنت فيه بمنزلة الباني وقواعده: وكل بناء على قدر بانيه وماشاد-. ونحن نأمر ولاتنا على اختلاف مراتبهم أن يرفعوا من قدرك، ويسددوا من أمرك، وإذا استوعر عليك أمر من الجوانب سهلوا من وعرك؛ والله أمر أهل طاعته بأن يكون بعضهم لبعض من الأعوان، فقال جل وتعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان}.